الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ يَا مُوسَى رَبَّكَ مِنْ شَرْحِهِ صَدْرَكَ وَتَيْسِيرِهِ لَكَ أَمَرَكَ، وَحَلِّ عُقْدَةَ لِسَانِكَ، وَتَصْيِيرِ أَخِيكَ هَارُونَ وَزِيرًا لَكَ، وَشَدِّ أَزْرِكَ بِهِ، وَإِشْرَاكِهِ فِي الرِّسَالَةِ مَعَكَ {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ تَطَوَّلْنَا عَلَيْكَ يَا مُوسَى قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ، إِذْ وَلَدَتْكَ فِي الْعَامِ الَّذِي كَانَ فِرْعَوْنُ يَقْتُلُ كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ مِنْ قَوْمِكَ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهَا؛ ثُمَّ فَسَّرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا أَوْحَى إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ: هُوَ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَـ"أَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ رَدًّا عَلَى "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ (مَا يُوحَى)، وَتَرْجَمَةً عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يَا مُوسَى مَرَّةً أُخْرَى حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ أَنِ اقْذِفِي ابْنَكِ مُوسَى حِينَ وَلَدَتْكَ فِي التَّابُوتِ {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} يَعْنِي بِالْيَمِّ النِّيلَ {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} يَقُولُ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، يُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَهُوَ جَزَاءٌ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، كَأَنَّ الْيَمَّ هُوَ الْمَأْمُورُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يَعْنِي: اتَّبَعُوا سَبِيلَنَا نَحْمِلْ عَنْكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ أُمُّهُ بِهِ فَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِمَشْرَعَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ مُوسَى أُمُّهُ أَرْضَعَتْهُ، حَتَّى إِذَا أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ مِنْ سَنَتِهِ تِلْكَ عَمَدَتْ إِلَيْهِ، فَصَنَعَتْ بِهِ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، جَعَلَتْهُ فِي تَابُوتٍ صَغِيرٍ، وَمَهَّدَتْ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى النَّيْلِ فَقَذَفَتْهُ فِيهِ، وَأَصْبَحَ فِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسٍ لَهُ كَانَ يَجْلِسُهُ عَلَى شَفِيرِ النِّيلِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ النِّيلُ بِالتَّابُوتِ فَقَذَفَ بِهِوَآسِيَةُ ابْنَةُ مُزَاحِمٍامْرَأَتُهُ جَالِسَةٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ فِي الْبَحْرِ، فَأْتُونِي بِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَعْوَانُهُ حَتَّى جَاءُوا بِهِ، فَفَتَحَ التَّابُوتَ فَإِذَا فِيهِ صَبِيٌّ فِي مَهْدِهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ. وَعَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} فِرْعَوْنَ هُوَ الْعَدُوُّ، كَانَ لِلَّهِ وَلِمُوسَى. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} وَهُوَ الْبَحْرُ، وَهُوَ النِّيلُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْمَحَبَّةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ قَالَا ثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قَالَ عَبَّاسٌ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي، وَقَالَ الصُّدَانِيُّ: حَبَّبْتُكَ إِلَى خَلْقِي. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَيْ حَسَّنَتُ خَلْقَكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلَهُ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قَالَ: حُسْنًا وَمَلَاحَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَلْقَى مَحَبَّتَهُ عَلَى مُوسَى، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فَحَبَّبَهُ إِلَىآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، حَتَّى تَبَنَّتْهُ وَغَذَّتْهُ وَرَبَّتْهُ، وَإِلَى فِرْعَوْنَ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ عَادِيَّتَهُ وَشَرَّهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، لِأَنَّهُ حَبَّبَهُ إِلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ. وَمَعْنَى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} حَبَّبْتُكَ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ إِذَا أَحَبَّهُ: أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ رَحْمَتِي: أَيْ مَحَبَّتِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَّرَ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلِتُغَذَّى وَتُرَبَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: هُوَ غِذَاؤُهُ، وَلِتُغَذَّى عَلَى عَيْنِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قَالَ: جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ يَنْعَمُ وَيَتْرُفُ غِذَاؤُهُ عِنْدَهُمْ غِذَاءَ الْمَلِكِ، فَتِلْكَ الصَّنْعَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْتَ بِعَيْنِي فِي أَحْوَالِكَ كُلِّهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قَالَ: أَنْتَ بِعَيْنِي إِذْ جَعَلَتْكَ أُمُّكَ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ فِي الْبَحْرِ، وَ {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ}. وَقَرَأَ ابْنُ نَهْيِكٍ (وَلِتَصْنَعَ) بِفَتْحِ التَّاءِ. وَتَأَوَّلَهُ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَهْيِكٍ يَقْرَأُ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلِتَعْمَلَ عَلَى عَيْنِي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا (وَلِتُصْنَعَ) بِضَمِّ التَّاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِهِ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَتَادَةُ وَهُوَ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} وَلِتُغَذَّى عَلَى عَيْنِي، أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ الْمَحَبَّةَ مِنِّي، وَعَنَى بِقَوْلِهِ {عَلَى عَيْنِي} بِمَرْأَى مِنِّي وَمَحَبَّةٍ وَإِرَادَةٍ. وَقَوْلُهُ {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حِينَ تَمْشِي أُخْتُكَ تَتْبَعُكَ حَتَّى وَجَدَتْكَ، ثُمَّ تَأْتِي مَنْ يَطْلُبُ الْمَرَاضِعَ لَكَ، فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ وَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَا ذَكَرَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَتْأُخْتُ مُوسَىذَلِكَ لَهُمْ لِمَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا أَلْقَتْهُ أُمُّهُ فِي الْيَمِّ {قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} فَلَمَّا الْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، وَأَرَادُوا لَهُ الْمُرْضِعَاتِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ يَطْلُبْنَ ذَلِكَ لِيَنْـزِلْنَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الرِّضَاعِ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}؟ فَأَخَذُوهَا وَقَالُوا: بَلْ قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلَامَ، فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ، قَالَتْ: مَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنْ إِنَّمَا قُلْتُ هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَتْ، يَعْنِي: أُمُّ مُوسَىلِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ فَانْظُرِي مَاذَا يَفْعَلُونَ بِهِ، فَخَرَجَتْ فِي ذَلِكَ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وَقَدِ احْتَاجَ إِلَى الرِّضَاعِ وَالْتَمَسَ الثَّدْيَ، وَجَمَعُوا لَهُ الْمَرَاضِعَ حِينَ أَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْتَى بِامْرَأَةٍ فَيَقْبَلُ ثَدْيَهَا، فَيَرْمِضُهُمْ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِمُرْضِعٍ بَعْدَ مُرْضِعٍ، فَلَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنْهُمْ، فَقَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ حِينَ رَأَتْ مِنْ وَجْدِهِمْ بِهِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أَيْ لِمَنْـزِلَتِهِ عِنْدَكُمْ وَحِرْصَكُمْ عَلَى مَسَرَّةِ الْمَلِكِ، وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ فَيَحْفَظُهُ وَيُرْضِعُهُ وَيُرَبِّيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ضَمَّهَا. وَقَوْلُهُ {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَرَدَدْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ بَعْدَ مَا صِرْتَ فِي أَيْدِي آلِ فِرْعَوْنَ، كَيْمَا تَقَرَّ عَيْنُهَا بِسَلَامَتِكَ وَنَجَاتِكَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْغَرَقِ فِي الْيَمِّ، وَكَيْلَا تَحْزَنَ عَلَيْكَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ فِرْعَوْنَ عَلَيْكَ أَنْ يَقْتُلَكَ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا قَالَتْأُخْتُ مُوسَىلَهُمْ مَا قَالَتْ، قَالُوا: هَاتِ، فَأَتَتْ أُمَّهُ فَأَخْبَرَتْهَا، فَانْطَلَقَتْ مَعَهَا حَتَّى أَتَتْهُمْ، فَنَاوَلُوهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا أَخَذَ ثَدْيَهَا، وَسُرُّوا بِذَلِكَ مِنْهُ، وَرَدَّهُ اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ، فَبَلَغَ لُطْفُ اللَّهِ لَهَا وَلَهُ أَنَّ رَدَّ عَلَيْهَا وَلَدَهَا وَعَطَفَ عَلَيْهَا نَفْعَ فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَعَ الْأَمَنَةِ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي يُتَخَوَّفُ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ فِرْعَوْنَ فِي الْأَمَانِ وَالسَّعَةِ، فَكَانَ عَلَى فُرُشِ فِرْعَوْنَ وَسُرُرِهِ. وَقَوْلُهُ {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ قَتْلَهُ الْقِبْطِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ حِينَ اسْتَغَاثَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَوَكَزَهُ مُوسَى. وَقَوْلُهُ {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ غَمِّكَ بِقَتْلِكَ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلْتَ، إِذْ أَرَادُوا أَنْ يَقْتُلُوكَ بِهَا فَخَلَّصْنَاكَ مِنْهُمْ، حَتَّى هَرَبْتَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَى قَتْلِكَ وَقَوْدِكَ. وَكَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ فِيمَا ذُكِرَ خَطَأً، كَمَا حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ". حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَا ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} قَالَ: مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} النَّفْسِ الَّتِي قَتَلَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} يَقُولُ: اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنَى أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قَالَ: ابْتُلِيتَ بَلَاءً. حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْآمِلِيُّ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْبُغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: ثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لِمُوسَى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فَسَأَلْتُهُ عَلَى الْفُتُونِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ لِي: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا بْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ وَمَا يَشُكُّونَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ؛ فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟ قَالَ: فَأْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ؛ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالُوا: يُوشِكُ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُونَ إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلُّ أَبْنَاؤُهُمْ، وَدَعُوا عَامًا لَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَتَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُونَ مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَقِلُّوا بِمَنْ تَقْتُلُونَ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَحَمَلَتْأُمُّ مُوسَىبِهَارُونَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي، فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ بِيَدِي إِلَى حِيتَانِ الْبَحْرِ وَدَوَابِّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَاءُ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقَى جِوَارِي آلِ فِرْعَوْنَ فَرَأَيْنَهُ فَأَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ الْبَابَ، فَقَالَ بِعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَاامْرَأَةُ فِرْعَوْنَبِمَا وَجَدْنَا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُحَرِّكْنَ مِنْهُ شَيْئًا، حَتَّى دَفَعْنَهُ إِلَيْهَا؛ فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ الْغُلَامَ، فَأُلْقِي عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ لَمْ يُلْقَ مِثْلُهَا مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا إِلَىامْرَأَةِ فِرْعَوْنَبِشَفَارِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَتْ لِلذَّبَّاحِينَ: انْصَرَفُوا عَنِّي، فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَآتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَلَمَّا أَتَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ قَالَتْ {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ بِهِ، لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ أُنْثَى لَهَا لَبَنٌ، لِتَخْتَارَ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ لِتُرْضِعُهُ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِامْرَأَةُ فِرْعَوْنَأَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتُ، فَحَزَنَهَا ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ مَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ لَهُ ظِئْرًا يَأْخُذُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ، وَأَصْبَحَتْأُمُّ مُوسَى، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا، أَحَيٌّ ابْنِي، أَوْ قَدْ أَكَلَتْهُ دَوَابُّ الْبَحْرِ وَحِيتَانُهُ؟ وَنَسِيَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظَّئُورَاتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَأَخَذُوهَا وَقَالُوا: وَمَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ، هَلْ يَعْرِفُونَهُ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي ظَئُورَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ، فَتَرَكُوهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَـزَا إِلَى ثَدْيِهَا حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ، فَانْطَلَقَ الْبُشَرَاءُ إِلَىامْرَأَةِ فِرْعَوْنَيُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا، فَأَتَيَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتْ: امْكُثِي عِنْدِي حَتَّى تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ: فَقَالَتْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي، فَيَضِيعُ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ، فَأَذْهَبُ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونُ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا فَعَلْتُ، وَإِلَّا فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي، وَذَكَرَتْأُمُّ مُوسَىمَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَىامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنْجَزٌ وَعَدَهِ، فَرَجَعَتْ بِابْنِهَا إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَضَى فِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالسُّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ. فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَلِأُمِّ مُوسَى: أَزِيرِينِي ابْنِي فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُزِيرُهَا إِيَّاهُ فِيهِ، فَقَالَتْ لِخَوَاصِّهَا وَظَئُورَتِهَا وَقَهَارِمَتِهَا: لَا يَبْقَيْنَ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ لِيَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينَةً تُحْصِي كُلَّ مَا يَصْنَعُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ، فَلَمْ تَزَلِ الْهَدِيَّةُ وَالْكَرَامَةُ وَالتُّحَفُ تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَىامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا نَحَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَفَرِحَتْ بِهِ، وَأَعْجَبَهَا مَا رَأَتْ مِنْ حُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: انْطَلِقْنَ بِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلْيَنْحَلْهُ، وَلْيُكْرِمْهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَتْهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى مَدَّهَا، فَقَالَ عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَيَصْرَعُكَ وَيَعْلُوكَ، فَأَرْسِلْ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ بَعْدَ كَلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ، فَجَاءَتِامْرَأَةُ فِرْعَوْنَتَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي قَدْ وَهَبْتَهُ لِي؟ قَالَ: أَلَا تَرَيْنَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَيَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي، فَقَالَتْ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الْحَقَّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ، فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنَّ تَنَاوُلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ، فَقَرَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَنَـزَعُوهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ تَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمَرَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَشَدَّهُ، وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ امْتِنَاعٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، إِذْ هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْآخِرُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيُّ فَغَضِبَ مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْـزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَمَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ غَيْرِأُمِّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ؛ فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} ثُمَّ قَالَ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا وَلَا تُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقْضِيَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، فَطَلَبُوا لَهُ ذَلِكَ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ ثَبْتًا، إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ، فَرَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ فِرْعَوْنِيًّا فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ مُوسَى، فَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ قَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لَمَّا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانٌ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيِّ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَحَاجَزَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَقَالَ {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا؛ فَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ حِينَ يَقُولُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلَتْ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ، فَسَلَكَ مُوسَى الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ، فَطَلَبُوهُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرُهُ الْخَبَرَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (فُتُونًا) قَالَ: بَلَاءٌ إِلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ الْتِقَاطُ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ، ثُمَّ خُرُوجُهُ خَائِفًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: خَائِفًا، أَوْ جَائِعًا "شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ "، وَقَالَ الْحَارِثُ: خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَلَمْ يَشُكَّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَقَالَ: {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، وَلَمْ يَشُكَّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} يَقُولُ: ابْتَلَيْنَاكَ بَلَاءً. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عَبِيدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} هُوَ الْبَلَاءُ عَلَى إِثْرِ الْبَلَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَخْلَصْنَاكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُفَسِّرُ هَذَا الْحَرْفَ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قَالَ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مَعْنَى الْفِتْنَةِ، وَأَنَّهَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْإِعَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ بَعْضُ مَا بِهِ تَمَامُهُ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَمَّا حُذِفَ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُونَا، فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ جِئْتَ لِلْوَقْتِ الَّذِي أَرَدْنَا إِرْسَالَكَ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا وَلِمِقْدَارِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتَ لِمِيقَاتٍ يَا مُوسَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعً عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ {عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قَالَ: مَوْعِدٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَلَى ذِي مَوْعِدٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قَالَ: قَدَرُ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى قَدَرٍ: إِذَا جَاءَ لِمِيقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَـالَ الْخِلَافَـةَ أَوْ كَـانَتْ لَـهُ قَـدَرًا *** كَمَـا أَتَـى رَبَّـهُ مُوسَـى عَـلَى قَدَرِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ يَا مُوسَى هَذِهِ النِّعَمَ، وَمَنَّنْتُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْمِنَنَ، اجْتِبَاءً مِنِّي لَكَ، وَاخْتِيَارًا لِرِسَالَتِي وَالْبَلَاغِ عَنِّي وَالْقِيَامِ بِأَمْرِي وَنَهْيِي {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} هَارُونُ (بِآيَاتِي) يَقُولُ: بِأَدِلَّتِي وَحُجَجِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ بِهَا إِنَّهُ تَمَرَّدَ فِي ضَلَالِهِ وَغَيِّهِ، فَأَبْلِغَاهُ رِسَالَاتِي {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} يَقُولُ: وَلَا تَضْعُفَا فِي أَنْ تَذْكُرَانِي فِيمَا أَمَرْتُكُمَا وَنَهَيْتُكُمَا، فَإِنَّ ذِكْرَكُمَا إِيَّايَ يُقَوِّي عَزَائِمَكُمَا، وَيُثَبِّتُ أَقْدَامَكُمَا، لِأَنَّكُمَا إِذَا ذَكَرْتُمَانِي، ذَكَرْتُمَا مِنِّي عَلَيْكُمَا نِعَمًا جَمَّةً، وَمِنَنًا لَا تُحْصَى كَثْرَةً، يُقَالُ مِنْهُ: وَنَى فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَعَنْ هَذَا الْأَمْرِ: إِذَا ضَعُفَ، وَهُوَ يَنِي وَنَيًّا كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ: فَمَـا وَنَـى مُحَـمَّدٌ مُـذْ أَنْ غَفَـرْ *** لَـهُ الْإِلَـهُ مَـا مَضَـى وَمَـا غَـيَرْ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَلَا تَنِيَا) يَقُولُ: لَا تُبْطِئَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} يَقُولُ: وَلَا تَضْعُفَا فِي ذِكْرِي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قَالَ: لَا تَضْعُفَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (تَنِيَا) تَضْعُفَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} يَقُولُ: لَا تَضْعُفَا فِي ذِكْرِي. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قَالَ: لَا تَضْعُفَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} يَقُولُ: لَا تَضْعُفَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قَالَ: الْوَانِي: هُوَ الْغَافِلُ الْمُفْرِطُ ذَلِكَ الْوَانِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولَا لِفِرْعَوْنَ قَوْلًا لَيِّنًا، ذُكِرَ أَنَّ الْقَوْلَ اللَّيِّنَ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَقُولَاهُ لَهُ هُوَ أَنْ يُكَنِّيَاهُ. حَدَّثَنِي جَعْفَرُ ابْنُ ابْنَةِ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْأَزْرَقِ قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنِ السُّدِّيِّ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} قَالَ: كَنِّيَاهُ. وَقَوْلُهُ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (لَعَلَّهُ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهَا هَا هُنَا الِاسْتِفْهَامُ، كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فَانْظُرَا هَلْ يَتَذَكَّرُ وَيُرَاجِعُ أَوْ يَخْشَى اللَّهَ فَيَرْتَدِعُ عَنْ طُغْيَانِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} يَقُولُ: هَلْ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى لَعَلَّ هَاهُنَا كَيْ. وَوَجَّهُوا مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} فَادْعُوَاهُ وَعِظَاهُ لِيَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: اعْمَلْ عَمَلَكَ لَعَلَّكَ تَأْخُذُ أَجْرَكَ، بِمَعْنَى: لِتَأْخُذْ أَجْرَكَ، وَافْرُغْ مِنْ عَمَلِكَ لَعَلَّنَا نَتَغَدَّى، بِمَعْنَى: لِنَتَغَدَّى، أَوْ حَتَّى نَتَغَدَّى، وَلِكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَمَذْهَبٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ فِرْعَوْنَ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى مَا أَمَرْتَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَعْجَلَ عَلَيْنَا بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَطَ مِنِّي إِلَى فُلَانٍ أَمْرٌ، إِذَا سَبَقَ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ: فَارِطُ الْقَوْمِ، وَهُوَ الْمُتَعَجِّلُ الْمُتَقَدِّمُ أَمَامَهُمْ إِلَى الْمَاءِ أَوِ الْمَنْـزِلِ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: قَدْ فَرَطَ الْعِلْجُ عَلَيْنَا وَعَجِلْ وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ: فَهُوَ الْإِسْرَافُ وَالْإِشْطَاطُ وَالتَّعَدِّي، يُقَالُ مِنْهُ: أَفْرَطْتَ فِي قَوْلِكَ: إِذَا أَسْرَفَ فِيهِ وَتَعَدَّى. وَأَمَّا التَّفْرِيطُ: فَإِنَّهُ التَّوَانِي، يُقَالُ مِنْهُ: فَرَّطْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى فَاتَ: إِذَا تَوَانَى فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قَالَ: عُقُوبَةً مِنْهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} قَالَ: نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْنَا إِذْ نُبَلِّغُهُ كَلَامَكَ أَوْ أَمْرَكَ، يَفْرُطُ وَيَعْجَلُ. وَقَرَأَ {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ (لَا تَخَافَا) فِرْعَوْنَ (إِنَّنِي مَعَكُمَا) أُعِينُكُمَا عَلَيْهِ، وَأُبْصِرُكُمَا (أَسْمَعُ) مَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا وَبَيْنَهُ، فَأُفْهِمُكُمَا مَا تُحَاوِرَانِهِ بِهِ (وَأَرَى) مَا تَفْعَلَانِ وَيَفْعَلُ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا لَهُ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} مَا يُحَاوِرُكُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيْكُمَا فَتُجَاوِبَانِهِ. وَقَوْلُهُ {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُرْسِلَ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسِلْهُمْ مَعَنَا وَلَا تُعَذِّبْهُمْ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الرَّدِيئَةِ {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} مُعْجِزَةٍ (مِنْ رَبِّكَ) عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ بِذَلِكَ، إِنْ أَنْتَ لَمْ تُصَدِّقْنَا فِيمَا نَقُولُ لَكَ أَرَيْنَاكَهَا، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} يَقُولُ: وَالسَّلَامَةُ لِمَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللَّهِ، وَهُوَ بَيَانُهُ، يُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَلِمَنِ اتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِرَسُولِهِ مُوسَى وَهَارُونَ: قُولَا لِفِرْعَوْنَ إِنَّا قَدْ أَوْحَى إِلَيْنَا رَبُّكَ أَنَّ عَذَابَهُ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ وَلَا انْقِطَاعَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ بِمَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِجَابَةِ رُسُلِهِ (وَتَوَلَّى) يَقُولُ: وَأَدْبَرَ مُعْرِضًا عَمَّا جِئْنَاهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} فِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَأَتَيَاهُ) فَقَالَا لَهُ مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَبُّهُمَا وَأَبْلَغَاهُ رِسَالَتَهُ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ لَهُمَا {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} فَخَاطِبَ مُوسَى وَحَدَهُ بِقَوْلِهِ: يَا مُوسَى، وَقَدْ وَجَّهَ الْكَلَامَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُجَاوَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالْجَمَاعَةِ لَا مِنَ الْجَمِيعِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَكَانَ الَّذِي يَحْمِلُ الْحُوتَ وَاحِدٌ، وَهُوَ فَتَى مُوسَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}. وَقَوْلُهُ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لَهُ مُجِيبًا: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، يَعْنِي: نَظِيرَ خَلْقِهِ فِي الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ، كَالذُّكُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَعْطَاهُمْ نَظِيرَ خَلْقِهِمْ مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا، وَكَالذُّكُورِ مِنَ الْبَهَائِمِ، أَعْطَاهَا نَظِيرَ خَلْقِهَا وَفِي صُورَتِهَا وَهَيْئَتِهَا مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا، فَلَمْ يُعْطِ الْإِنْسَانَ خِلَافَ خَلْقِهِ، فَيُزَوِّجُهُ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَلَا الْبَهَائِمَ بِالْإِنَاثِ مِنَ الْإِنْسِ، ثُمَّ هَدَاهُمْ لِلْمَأْتِيِّ الَّذِي مِنْهُ النَّسْلُ وَالنَّمَاءُ كَيْفَ يَأْتِيهِ، وَلِسَائِرِ مَنَافِعِهِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} يَقُولُ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَةً، ثُمَّ هَدَاهُ لِمَنْكِحِهِ وَمَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ وَمَوْلِدِهِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} يَقُولُ: أَعْطَى كُلَّ دَابَّةٍ خَلْقَهَا زَوْجًا، ثُمَّ هَدَى لِلنِّكَاحِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ (ثُمَّ هَدَى) أَنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالْمُنَاكَحَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} يَعْنِي: هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ وَهَدَاهُمْ لِلتَّزْوِيجِ أَنْ يُزَوِّجَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ، وَهِيَ خَلْقُهُ الَّذِي خَلَقَهُ بِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ لَمَّا يُصْلِحُهُ مِنَ الِاحْتِيَالِ لِلْغِذَاءِ وَالْمَعَاشِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَى مَعِيشَتِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: سَوَّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ، ثُمَّ هَدَاهَا لَمَّا يُصْلِحُهَا، فَعَلَّمَهَا إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: سَوَّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ ثُمَّ هَدَاهَا لَمَّا يُصْلِحُهَا وَعَلَّمَهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ النَّاسَ فِي خَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلْقَ الْبَهَائِمِ فِي خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: هَدَاهُ إِلَى حِيلَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يُصْلِحُهُ، ثُمَّ هَدَاهُ لَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يُصْلِحُهُ. ثُمَّ هَدَاهُ لَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَلَا يُعْطِي الْمُعْطِي نَفْسَهُ، بَلْ إِنَّمَا يُعْطِي مَا هُوَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُعْطِي الْمُعْطَى وَالْعَطِيَّةَ، وَلَا تَكُونُ الْعَطِيةُ هِيَ الْمُعْطَى، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ هُوَ وَكَانَتْ غَيْرُهُ، وَكَانَتِ الصُّورَةُ كُلَّ خَلْقٍ بَعْضَ أَجْزَائِهِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: أَعْطَى الْإِنْسَانُ صُورَتَهُ، إِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهُ أَعْطَى بَعْضَ الْمَعَانِي الَّتِي بِهِ مَعَ غَيْرِهِ دُعِيَ إِنْسَانًا، فَكَأَنَّ قَائِلَهُ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ خَلْقٍ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِذَا وَجَّهَ إِلَيْهِ الْكَلَامَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَعَانِي الْعَطِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْأَصْوَبُ مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ رَبُّهُ مِثْلَ خَلْقِهِ، فَزَوَّجَهُ بِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ لَمَّا بَيَّنَّا، ثُمَّ تَرَكَ ذِكْرَ مِثْلِ، وَقِيلَ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} كَمَا يُقَالُ: عَبْدُ اللَّهُ مِثْلُ الْأَسَدِ، ثُمَّ يُحْذَفُ مُثُلُ، فَيَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ الْأَسَدُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى، إِذْ وَصَفَ مُوسَى رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِمَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ السُّلْطَانِ، وَكَثْرَةِ الْإِنْعَامِ عَلَى خَلْقِهِ وَالْأَفْضَالِ: فَمَا شَأْنُ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِنْ قَبْلِنَا لَمْ تُقِرَّ بِمَا تَقُولُ، وَلَمْ تُصَدِّقْ بِمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَمْ تُخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَكِنَّهَا عَبَدَتِ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَصِفُ مِنْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا خَلْقَهُ، وَأَنَّهَا فِي نِعَمِهِ تَتَقَلَّبُ، وَفِي مِنَنِهِ تَتَصَرَّفُ، فَأَجَابَهُ مُوسَى فَقَالَ: عِلْمُ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ مِنْ قَبْلِنَا فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ، عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ: يَعْنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ، لَا عِلْمَ لِي بِأَمْرِهَا، وَمَا كَانَ سَبَبَ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ فَذَهَبَ عَنْ دِينِ اللَّهِ {لَا يَضِلُّ رَبِّي} يَقُولُ: لَا يُخْطِئُ رَبِّي فِي تَدْبِيرِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَذَّبَ تِلْكَ الْقُرُونَ فِي عَاجِلٍ، وَعَجَّلَ هَلَاكَهَا، فَالصَّوَابُ مَا فُعِلَ، وَإِنْ كَانَ أَخَّرَ عِقَابَهَا إِلَى الْقِيَامَةِ، فَالْحَقُّ مَا فَعَلَ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُ، لَا يُخْطِئُ رَبِّي (وَلَا يَنْسَى) فَيَتْرُكُ فِعْلَ مَا فِعْلُهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} يَقُولُ: لَا يُخْطِئُ رَبِّي وَلَا يَنْسَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} يَقُولُ فَمَا أَعْمَى الْقُرُونَ الْأُولَى، فَوَكَلَهَا نَبِيُّ اللَّهِ مَوْكِلًا فَقَالَ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}.... الْآيَةَ يَقُولُ: أَيْ أَعْمَارُهَا وَآجَالُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وَاحِدٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} قَالَ: هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ضَلَّ فُلَانٌ مَنْـزِلَهُ: إِذَا أَخْطَأَهُ، يُضِلُّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ ثَابِتٍ لَا يَبْرَحُ، فَأَخْطَأَهُ مُرِيدُهُ، فَإِنَّهَا تَقُولُ: أَضَلَّهُ، فَأَمَّا إِذَا ضَاعَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِنَفْسِهِ مِنْ دَابَّةٍ وَنَاقَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنْفَلِتُ مِنْهُ فَيَذْهَبُ، فَإِنَّهَا تَقُولُ: أَضَلَّ فُلَانٌ بَعِيرَهُ أَوْ شَاتَهُ أَوْ نَاقَتَهُ يُضِلُّهُ بِالْأَلِفِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى النِّسْيَانِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (مَهْدًا) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا} بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْمِهَادِ وَإِلْحَاقِ أَلِفٍ فِيهِ بَعْدَ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَنِ اخْتَارَ قِرَاءَةَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمِهَادَ: اسْمُ الْمَوْضِعِ، وَأَنَّ الْمَهْدَ الْفِعْلُ، قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ الْفَرْشِ وَالْفِرَاشُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (مَهْدًا) بِمَعْنَى: الَّذِي مَهَّدَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ مَشْهُورَتَانِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} يَقُولُ: وَأَنْهَجُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ فِيهَا: مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}: أَيْ طُرُقًا. وَقَوْلُهُ {وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يَقُولُ: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْغَيْثِ الَّذِي يُنْـزِلُهُ مِنْ سَمَائِهِ إِلَى أَرْضِهِ، بَعْدَ تَنَاهِي خَبَرِهِ عَنْ جَوَابِ مُوسَى فِرْعَوْنَ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ وَثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَخْرَجْنَا نَحْنُ أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا نُنْـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ أَزْوَاجًا، يَعْنِي أَلْوَانًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، يَعْنِي مُخْتَلِفَةَ الطُّعُومِ، وَالْأَرَايِيحِ وَالْمَنْظَرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} يَقُولُ: مُخْتَلِفٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ طَيِّبِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ بِالْغَيْثِ الَّذِي أَنْـزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ ثِمَارِ ذَلِكَ وَطَعَامِهِ، وَمَا هُوَ مِنْ أَقْوَاتِكُمْ وَغِذَائِكُمْ، وَارْعَوْا فِيمَا هُوَ أَرْزَاقُ بَهَائِمِكُمْ مِنْهُ وَأَقْوَاتُهَا أَنْعَامُكُمْ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} يَقُولُ: إِنَّ فِيمَا وَصَفْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّكُمْ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ لِآيَاتٍ: يَعْنِي لِدَلَالَاتٍ وَعَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ، وَأَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ غَيْرُهُ {لِأُولِي النُّهَى} يَعْنِي: أَهْلَ الْحِجَا وَالْعُقُولِ، وَالنُّهَى: جَمْعُ نُهْيَةٍ، كَمَا الْكُشَى: جَمْعُ كُشْيَةٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْكُشَى: شَحْمَةٌ تَكُونُ فِي جَوْفِ الضَّبِّ، شَبِيهَةٌ بِالسُّرَّةِ، وَخَصَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ آيَاتٌ لِأُولِي النُّهَى، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَهَّلُ التَّدَبُّرِ وَالِاتِّعَاظِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مِنَ الْأَرْضِ خَلَقْنَاكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، فَأَنْشَأْنَاكُمْ أَجْسَامًا نَاطِقَةً {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} يَقُولُ: وَفِي الْأَرْضِ نُعِيدُكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَنُصَيِّرُكُمْ تُرَابًا، كَمَا كُنْتُمْ قَبْلَ إِنْشَائِنَا لَكُمْ بَشَرًا سَوِيًّا {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} يَقُولُ: وَمِنَ الْأَرْضِ نُخْرِجُكُمْ كَمَا كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ أَحْيَاءً، فَنُنْشِئُكُمْ مِنْهَا، كَمَا أَنْشَأْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ (تَارَةً أُخْرَى) يَقُولُ: مَرَّةً أُخْرَى. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} يَقُولُ: مَرَّةً أُخْرَى. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {تَارَةً أُخْرَى} قَالَ: مَرَّةً أُخْرَى الْخُلُقُ الْآخَرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: مِنَ الْأَرْضِ أَخْرَجْنَاكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا خَلْقًا سَوِيًّا، وَسَنُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بَعْدَ مَمَاتِكُمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَرَيْنَا فِرْعَوْنَ آيَاتِنَا، يَعْنِي أَدِلَّتَنَا وَحُجَجَنَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَرْسَلْنَا بِهِ رَسُولَيْنَا، مُوسَى وَهَارُونَ إِلَيْهِ كُلَّهَا (فَكَذَّبَ وَأَبَى) أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ مَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمَا مِنَ الْحَقِّ اسْتِكْبَارًا وَعُتُوًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا لِرَسُولِنَا مُوسَى: أَجِئْتَنَا يَا مُوسَى لِتُخْرِجَنَا مِنْ مَنَازِلِنَا وَدُوْرِنَا بِسِحْرِكَ هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} لَا نَتَعَدَّاهُ، لِنَجِيءَ بِسِحْرٍ مِثْلِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَنَنْظُرُ أَيُّنَا يَغْلِبُ صَاحِبَهُ، لَا نُخْلِفُ ذَلِكَ الْمَوْعِدَ {نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} يَقُولُ: بِمَكَانٍ عَدْلٍ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ وَنَصَفٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ {مَكَانًا سُوًى} بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {مَكَانًا سُوًى} بِضَمِّهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، أَعْنِي الْكَسْرَ وَالضَّمَّ فِي السِّينِ مِنْ "سِوَى" مَشْهُورَتَانِ فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ قَرَأَتْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، مَعَ اتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، وَالنَّصَفُ لُغَةً هِيَ أَشْهَرُ مِنَ الْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَهُوَ الْفَتْحُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وَإِذَا فَتَحَ السِّينَ مِنْهُ مُدَّ، وَإِذَا كُسِرَتْ أَوْ ضُمَّتْ قُصِرَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَـإِنَّ أَبَانَـا كَـانَ حَـلَّ بِبَلْـدَةٍ *** سُـوًى بَيْـنَ قَيْسٍ قَيْسَ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ: طُوَى، وَطَوَى، وَثَنَى وَثُنَى، وَعَدَى وَعُدَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {مَكَانًا سُوًى} قَالَ: مُنْصِفًا بَيْنَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {مَكَانًا سُوًى}: أَيْ عَادِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {مَكَانًا سُوًى} قَالَ: نَصَفًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} قَالَ: يَقُولُ: عَدَلًا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {مَكَانًا سُوًى} قَالَ: مَكَانًا مُسْتَوِيًا يَتَبَيَّنُ لِلنَّاسِ مَا فِيهِ، لَا يَكُونُ صَوْبَ وَلَا شَيْءَ فَيَغِيبُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ مُسْتَوٍ حِينَ يَرَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ حِينَ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَوْعِدًا لِلِاجْتِمَاعِ: (مَوْعِدُكُمْ) لِلِاجْتِمَاعِ {يَوْمُ الزِّينَةِ} يَعْنِي يَوْمَ عِيدٍ كَانَ لَهُمْ، أَوْ سُوقٍ كَانُوا يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} يَقُولُ: وَأَنْ يُسَاقَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَنَاحِيَةٍ (ضُحًى) فَذَلِكَ مَوْعِدُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ لِلِاجْتِمَاعِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} فَإِنَّهُ يَوْمَ زِينَةٍ يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَيُحْشَرُ النَّاسُ لَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} قَالَ: يَوْمُ زِينَةٍ لَهُمْ، وَيَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} إِلَى عِيدٍ لَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ {يَوْمُ الزِّينَةِ} قَالَ: يَوْمَ السُّوقِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {يَوْمُ الزِّينَةِ} مَوْعِدُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ مُوسَى {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} وَذَلِكَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} يَوْمَ عِيدٍ كَانَ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} يَجْتَمِعُونَ لِذَلِكَ الْمِيعَادِ الَّذِي وُعِدُوهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} قَالَ: يَوْمُ الْعِيدِ، يَوْمَ يَتَفَرَّغُ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَشْهَدُونَ وَيَحْضِرُونَ وَيَرَوْنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} يَوْمَ عِيدٍ كَانَ فِرْعَوْنُ يَخْرُجُ لَهُ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} حَتَّى يَحْضُرُوا أَمْرِي وَأَمْرَكَ، وَأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} رُفِعَ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ {يَوْمُ الزِّينَةِ}. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي نَهْيِكٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَهْيِكٍ يَقُولُ: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} يَعْنِي فِرْعَوْنَ يَحْشُرُ قَوْمَهُ. وَقَوْلُهُ {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَدْبَرَ فِرْعَوْنُ مُعْرِضًا عَمَّا أَتَاهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} يَقُولُ: فَجَمَعَ مَكْرَهُ، وَذَلِكَ جَمْعُهُ سَحَرْتَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِتَعَلُّمِهِ (ثُمَّ أَتَى) يَقُولُ: ثُمَّ جَاءَ لِلْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ مُوسَى، وَجَاءَ بِسَحَرَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ لَمَّا جَاءَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يَقُولُ: لَا تَخْتَلِقُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَلَا تَتَقَوَّلُوهُ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} فَيَسْتَأْصِلُكُمْ بِهَلَاكٍ فَيُبِيدُكُمْ. وَلِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتَانِ: سُحِتَ، وَأُسْحِتَ، وَسُحِتَ أَكْثَرُ مَنْ أُسْحِتَ، يُقَالُ مِنْهُ: سُحِتَ الدَّهْرُ، وَأُسْحِتَ مَالُ فُلَانٍ: إِذَا أَهْلَكَهُ فَهُوَ يُسْحِتُهُ سُحْتًا، وَأُسْحِتُهُ يُسْحِتُهُ إِسْحَاتًا، وَمِنَ الْإِسْحَاتِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: وَعَـضُّ زَمَـانٌ يـَابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِـنَ الْمَـالِ إِلَّا مُسْـحَتًا أَوْ مُجَـلَّفُ وَيُرْوَى: إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} يَقُولُ: فَيُهْلِكُكُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} يَقُولُ: يَسْتَأْصِلُكُمْ بِعَذَابٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} قَالَ: فَيَسْتَأْصِلُكُمْ بِعَذَابٍ فَيُهْلِكُكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} قَالَ: يُهْلِكُكُمْ هَلَاكًا لَيْسَ فِيهِ بَقِيَّةٌ، قَالَ: وَالَّذِي يُسْحِتُ لَيْسَ فِيهِ بَقِيَّةٌ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} يَقُولُ: يُهْلِكُكُمْ بِعَذَابٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ {فَيُسْحِتَكُمْ} بِفَتْحِ الْيَاءِ مَنْ سَحَّتْ يَسْحَتُ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (فَيُسْحِتَكُمْ) بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أُسْحِتُ يُسْحِتُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَلُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنَّ الْفَتْحَ فِيهَا أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَهِيَ أَفْصَحُ وَالْأُخْرَى وَهِيَ الضَّمُّ فِي نَجْدٍ. وَقَوْلُهُ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} يَقُولُ: لَمْ يَظْفَرْ مَنْ يَخْلُقُ كَذِبًا، وَيَقُولُ بِكَذِبِهِ ذَلِكَ بِحَاجَتِهِ الَّتِي طَلَبَهَا بِهِ، وَرَجَا إِدْرَاكَهَا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَتَنَازَعَ السَّحَرَةُ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ تَنَازُعُهُمْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قَالَ السَّحَرَةُ بَيْنَهُمْ: إِنْ كَانَ هَذَا سَاحِرًا فَإِنَّا سَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَهُ أَمْرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ أَنْ بَعْضَهُمْ قَالَ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِ سَاحِرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: جَمَعَ كَلُّ سَاحِرٍ حِبَالَهُ وَعِصِيَّهُ، وَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ أَخُوهُ يَتَّكِئُ عَلَى عَصَاهُ، حَتَّى أَتَى الْمَجْمَعَ وَفِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَهُ أَشْرَافُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، قَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ، فَقَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ حِينَ جَاءَهُمْ: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} فَتَرَادَّ السَّحَرَةُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ. وَقَوْلُهُ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَسَرُّوا السَّحَرَةُ الْمُنَاجَاةَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السِّرَارِ الَّذِي أَسَرُّوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: إِنْ كَانَ هَذَا سَاحِرًا فَإِنَّا سَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ سَيَغْلِبُنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِتَنَاجٍ {إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا}. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} مِنْ دُونِ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالُوا فِي نَجْوَاهُمْ {إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالُوا: إِنَّ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ، يَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَانَ مُوسَى وَهَارُونُ، لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} مُوسَى وَهَارُونُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ (إِنَّ هَذَانَ) بِتَشْدِيدٍ إِنَّ وَبِالْأَلِفِ فِي هَذَانَ، وَقَالُوا: قَرَأْنَا ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: "إِنَّ" خَفِيفَةٌ فِي مَعْنَى ثَقِيلَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ لِقَوْمٍ يَرْفَعُونَ بِهَا، وَيُدْخِلُونَ اللَّامَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي تَكُونُ فِي مَعْنَى مَا، وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةَ: ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، يَجْعَلُونَ الِاثْنَيْنِ فِي رَفْعِهِمَا وَنَصْبِهِمَا وَخَفْضِهِمَا بِالْأَلِفِ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَسَدِ عَنْ بَعْضِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ: فَـأَطْرَقَ إطْـرَاقَ الشُّـجَاعِ وَلَـوْ رَأَى *** مَسَـاغًا لِنَابـاهُ الشُّـجَاعُ لَصَمِّمَـا قَالَ: وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا: هَذَا خَطُّ يَدَا أَخِي أَعْرِفُهُ، قَالَ: وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا أَقِيسُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: مُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا الْوَاوَ تَابِعَةً لِلضَّمَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تُعْرَبُ، ثُمَّ قَالُوا: رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا الْيَاءَ تَابِعَةً لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، قَالُوا: فَلَمَّا رَأَوُا الْيَاءَ مِنَ الِاثْنَيْنِ لَا يُمْكِنُهُمْ كَسْرَ مَا قَبْلَهَا، وَثَبَتَ مَفْتُوحًا، تَرَكُوا الْأَلِفَ تَتْبَعُهُ، فَقَالُوا: رَجُلَانِ فِي كُلِّ حَالٍ. قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي كِلَا الرَّجُلَيْنِ، فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ، وَهُمَا اثْنَانِ، إِلَّا بَنِي كِنَانَةٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَأَيْتُ كِلَيِ الرَّجُلَيْنِ، وَمَرَرْتُ بِكِلَيِ الرَّجُلَيْنِ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ قَلِيلَةٌ مَضَوْا عَلَى الْقِيَاسِ، قَالَ: وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ تَقُولَ: وُجِدَتِ الْأَلِفُ مِنْ هَذَا دِعَامَةً، وَلَيْسَتْ بِلَامِ فِعْلٍ، فَلَمَّا بُنِيَتْ زِدْتَ عَلَيْهَا نُونًا، ثُمَّ تُرِكَتِ الْأَلِفُ ثَابِتَةً عَلَى حَالِهَا لَا تَزُولُ بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ الَّذِي، ثُمَّ زَادُوا نُونًا تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، فَقَالُوا: الَّذِينَ فِي رَفْعِهِمْ وَنَصْبِهِمْ وَخَفْضِهِمْ، كَمَا تَرَكُوا هَذَانَ فِي رَفْعِهِ وَنَصْبِهِ وَخَفْضِهِ، قَالَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولُوا: اللَّذُونَ، وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: ذَلِكَ مِنَ الْجَزْمِ الْمُرْسَلِ، وَلَوْ نُصِبَ لَخَرَجَ إِلَى الِانْبِسَاطِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيُونُسُ: إِنْ هَذَيْنَ لَسَاحِرَانِ فِي اللَّفْظِ، وَكُتِبَ هَذَانَ كَمَا يُرِيدُونَ الْكِتَابَ، وَاللَّفْظُ صَوَابٌ، قَالَ: وَزَعَمَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ قَوْمًا مِنْ بَنِي كِنَانَةٍ وَغَيْرِهِمْ، يَرْفَعُونَ الِاثْنَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ، قَالَ: وَقَالَ بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ: إِنْ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالْإِيجَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا يَلِيهَا، وَلَا تَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ الَّذِي بَعْدَهَا، فَتَرْفَعُ الْخَبَرَ وَلَا تَنْصِبُهُ، كَمَا نَصَبَتِ الِاسْمَ، فَكَانَ مَجَازُ "إِنْ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ"، مَجَازَ كَلَامَيْنِ، مَخْرَجُهُ: إِنَّهُ إِي نَعَمْ، ثُمَّ قُلْتُ: هَذَانَ سَاحِرَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ الْمُشْتَرَكَ كَقَوْلِ ضَابِئٍ: فَمَـنْ يَـكُ أمْسَـى بِالْمَدِينَـةِ رَحْلُـهُ *** فَـإِنِّي وَقَيَّـارٌ بِهَـا لَغَـرِيبُ وَقَوْلُهُ: إِنَّ السُّـيُوفَ غُدُوُّهَـا وَرَوَاحُهَـا *** تَـرَكَتْ هَـوَازِنَ مِثْـلَ قَرْنِ الْأَعْضَبِ قَالَ: وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنِ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، فَيَرْفَعُونَ عَلَى شِرْكَةِ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يُعْمِلُونَ فِيهِ إِنَّ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ الْفُصَحَاءَ مِنَ الْمُحْرِمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمَلِكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: وَقَرَأَهَا قَوْمٌ عَلَى تَخْفِيفِ نُونِ إِنَّ وَإِسْكَانِهَا، قَالَ: وَيَجُوزُ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَدْخَلُوا اللَّامَ فِي الِابْتِدَاءِ وَهِيَ فَصْلٌ، قَالَ: أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٍ شَهْرَبَهْ قَالَ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إِذَا خُفِّفَ نُونُ "إِنْ" فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ "إِلَّا" فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا إِلَّا سَاحِرَانِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا (إِنَّ) بِتَشْدِيدِ نُونِهَا، وَهَذَانَ بِالْأَلِفِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ هُوَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَوَجْهُهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ مُشَابَهَتُهُ الَّذِينَ إِذْ زَادُوا عَلَى الَّذِي النُّونَ، وَأُقِرَّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْإِعْرَابَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَلِكَ (إِنَّ هَذَانَ) زِيدَتْ عَلَى هَذَا نَوَّنَ وَأُقِرَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَخَثْعَمَ وَزُبَيْدٍ وَمَنْ وَلِيَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ. وَقَوْلُهُ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يَقُولُ: وَيَغْلِبَا عَلَى سَادَاتِكُمْ وَأَشْرَافِكُمْ، يُقَالُ: هُوَ طَرِيقَةُ قَوْمِهِ وَنَظُورَةُ قَوْمِهِ، وَنَظِيرَتُهُمْ إِذَا كَانَ سَيِّدَهُمْ وَشَرِيفَهُمْ وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَرُبَّمَا جَمَعُوا، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ طَرَائِقُ قَوْمِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وَهَؤُلَاءِ نَظَائِرُ قَوْمِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (الْمُثْلَى) فَإِنَّهَا تَأْنِيثُ الْأَمْثَلِ، يُقَالُ لِلْمُؤَنَّثِ، خُذِ الْمُثْلَى مِنْهُمَا. وَفِي الْمُذَكَّرِ: خُذِ الْأَمْثَلَ مِنْهُمَا، وَوُحِّدَتِ الْمُثْلَى، وَهِيَ صِفَةٌ وَنَعْتٌ لِلْجَمَاعَةِ، كَمَا قِيلَ {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُثْلَى أُنِّثَتْ لِتَأْنِيثِ الطَّرِيقَةِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيمَعْنَى قَوْلِهِ {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يَقُولُ: أَمْثَلِكُمْ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: أُولِي الْعَقْلِ وَالشَّرَفِ وَالْأَنْسَابِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: أُولِي الْعُقُولِ وَالْأَشْرَافِ وَالْأَنْسَابِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} وَطَرِيقَتُهُمُ الْمُثْلَى يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا أَكْثَرَ الْقَوْمِ عَدَدًا وَأَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: إِنَّمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَذْهَبَا بِهِمْ لِأَنْفُسِهِمَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: بِبَنِي إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يَقُولُ: يَذْهَبَا بِأَشْرَافِ قَوْمِكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَيُغَيِّرَا سُنَّتَكُمْ وَدِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ حَسَنُ الطَّرِيقَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: يَذْهَبَا بِالَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، يُغَيِّرُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} قَالَ: هَذَا قَوْلُهُ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} وَقَالَ: يَقُولُ طَرِيقَتُكُمُ الْيَوْمَ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ، فَإِذَا غُيِّرَتْ ذَهَبَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنَا هَشِيمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَصْرِفَانِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} وَإِنْ كَانَ قَوْلًا لَهُ وَجْهٌ يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ خِلَافُهُ، فَلَا أَسْتَجِيزُ لِذَلِكَ الْقَوْلَ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} بِهَمْزِ الْأَلِفِ مِنْ (فَأَجْمِعُوا)، وَوَجَّهُوا مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى: فَأَحْكِمُوا كَيْدَكُمْ، وَاعْزِمُوا عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَجْمَعَ فُلَانٌ الْخُرُوجَ، وَأَجْمَعُ عَلَى الْخُرُوجِ، كَمَا يُقَالُ: أَزْمَعَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَـا لَيْـتَ شِـعْرِي وَالْمُنَـى لَا تَنْفَـعُ *** هَـلْ أغْـدُونْ يَوْمًـا وَأمْـرِي مُجْـمَعُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "مُجْمَعُ"؛ قَدْ أُحْكِمَ وَعُزِمَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صَوْمَ لَه». وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَتَرْكِ هَمْزِهَا، مِنْ جَمَعْتُ الشَّيْءَ، كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى مَعْنَى: فَلَا تَدَعُوا مِنْ كَيْدِكُمْ شَيْئًا إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ. وَكَانَ بَعْضُ قَارِئِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَعْتَلُّ فِيمَا ذُكِرَ لِي لِقِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ عِنْدَنَا هَمْزُ الْأَلِفِ مِنْ أَجْمَعَ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِهِ مَعْرُوفِينَ، فَلَا وَجْهَ لِأَنَّ يُقَالُ لَهُمْ: أَجْمِعُوا مَا دُعِيتُمْ لَهُ مِمَّا أَنْتُمْ بِهِ عَالِمُونَ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يَجْمَعُ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَوْمَ تَزَيُّدٍ فِي عِلْمِهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السِّحْرِ، بَلْ كَانَ يَوْمَ إِظْهَارِهِ، أَوْ كَانَ مُتَفَرِّقًا مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ، بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنِ السِّحْرُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَهُمْ فَيَجْمَعُونَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} فَغَيْرُ شَبِيهِ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ وَيَحْتَفِلُ بِمَا يَغْلِبُ بِهِ مُوسَى مِمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُجْتَمَعًا حَاضِرًا، فَقِيلَ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يَقُولُ: احْضَرُوا وَجِيئُوا صَفًّا، وَالصَّفُّ هَاهُنَا مَصْدَرٌ، وَلِذَلِكَ وُحِّدَ، وَمَعْنَاهُ: ثُمَّ ائْتُوا صُفُوفًا، وَلِلصَّفِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَتَيْتُ الصَّفَّ الْيَوْمَ، يَعْنِي بِهِ الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ. وَقَوْلُهُ {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} يَقُولُ: قَدْ ظَفِرَ بِحَاجَتِهِ الْيَوْمَ مَنْ عَلَا عَلَى صَاحِبِهِ فَقَهَرَهُ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: جَمَعَ فِرْعَوْنُ النَّاسَ لِذَلِكَ الْجَمْعِ، ثُمَّ أَمَرَ السَّحَرَةَ فَقَالَ {ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أَيْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَفْلَجَ الْيَوْمَ عَلَى صَاحِبِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَجْمَعَتِ السَّحَرَةُ كَيْدَهُمْ، ثُمَّ أَتَوْا صَفًّا فَقَالُوا لِمُوسَى {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} وَتُرِكَ ذِكْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَبْلَغِ عَدَدِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ أَتَوْا يَوْمَئِذٍ صَفًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ مِنْهُمْ حَبْلٌ وَعَصَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ هُشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ قَالَ: جَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ، فَأَلْقَوْا سَبْعِينَ أَلِفَ حَبْلٍ، وَسَبْعِينَ أَلْفَ عَصًا، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ فَاغِرٌ بِهِ فَاهُ، فَابْتَلَعَ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ أَهْلِهِمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ} أَلْقُوا، فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ لَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: صِفْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ حِبَالُهُ وَعِصِيُّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ السَّحَرَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ الْعَرِيشٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ فَيُّومٍ، وَيَشُكُّونَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ مَا مَعَكَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ مَا مَعَنَا قَبْلَكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} وَأَنَّ فِي قَوْلِهِ (إِمَّا أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: اخْتَرْ يَا مُوسَى أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ رَفْعٌ، كَانَ مَذْهَبًا، كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فَسِـيرَا فَإِمَّـا حَاجَـةً تَقْضِيانِهَـا *** وَإِمَّـا مَقِيـلٌ صَـالِحٌ وَصَـدِيقُ وَقَوْلُهُ {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ مَا مَعَكُمْ قَبْلِي. وَقَوْلُهُ {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، وَهُوَ: فَأَلْقَوْا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، فَإِذَا حِبَالُهُمْ، تَرَكَ ذِكْرَهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ الَّذِي ذُكِرَ عَلَيْهِ عَنْهُ، وَذُكِرَ أَنَّ السَّحَرَةَ سَحَرُوا عَيْنَ مُوسَى وَأَعْيُنَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُلْقُوا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَخُيِّلَ حِينَئِذٍ إِلَى مُوسَى أَنَّهَا تَسْعَى. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالُوا يَا مُوسَى، {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فَكَانَ أَوَّلُ مَا اخْتَطَفُوا بِسِحْرِهِمْ بَصَرَ مُوسَى وَبَصَرَ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَبْصَارَ النَّاسِ بَعْدُ، ثُمَّ أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، فَإِذَا هِيَ حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْحِبَالِ، قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} بِالْيَاءِ بِمَعْنَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ سَعْيُهَا، وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَتْ "أَنَّ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: (تُخَيَّلُ) بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: تُخَيَّلُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ بِأَنَّهَا تَسْعَى، وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَتْ "أَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِتَعَلُّقِ "تُخَيَّل" بِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: {تُخَيَّلُ إِلَيْهِ} بِمَعْنَى: تَتَخَيَّلُ إِلَيْهِ، وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَيْضًا فَـ"أَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: تَتَخَيَّلُ بِالسَّعْيِ لَهُمْ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ غَيْرُهَا (يُخَيَّلُ) بِالْيَاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا مُوسَى فَوَجَدَهُ. وَقَوْلُهُ {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْنَا لِمُوسَى إِذْ أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} عَلَى هَؤُلَاءِ السَّحَرَةِ، وَعَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، وَالْقَاهِرُ لَهُمْ {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} يَقُولُ: وَأَلْقِ عَصَاكَ تَبْتَلِعُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمُ الَّتِي سَحَرُوهَا حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّهَا تَسْعَى. وَقَوْلُهُ {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} بِرَفْعِ كَيَدٍ وَبِالْأَلِفِ فِي سَاحِرٍ بِمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي صَنَعَهُ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةُ كَيْدٌ مِنْ سَاحِرٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} بِرَفْعِ الْكَيْدِ وَبِغَيْرِ الْأَلِفِ فِي السِّحْرِ بِمَعْنَى إِنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سِحْرٍ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَيْدَ هُوَ الْمَكْرُ وَالْخُدْعَةُ، فَالسَّاحِرُ مُكْرِهٌ وَخُدْعَتُهُ مِنْ سِحْرٍ يَسْحَرُ، وَمَكْرُ السِّحْرِ وَخُدْعَتُهُ: تُخَيُّلُهُ إِلَى الْمَسْحُورِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ، فَالسَّاحِرُ كَائِدٌ بِالسِّحْرِ، وَالسِّحْرُ كَائِدٌ بِالتَّخْيِيلِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أَضَفْتَ الْكَيْدَ فَهُوَ صَوَابٌ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ (كَيْدَ سِحْرٍ) بِنَصْبِ كَيْدٍ، وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، جَعَلَ إِنَّمَا حَرَّفَا وَاحِدًا وَأَعْمَلَ صَنَعُوا فِي كَيْدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهَا. وَقَوْلُهُ {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} يَقُولُ: وَلَا يَظْفَرُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ بِمَا طَلَبَ أَيْنَ كَانَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَلُ حَيْثُ وُجِدَ. وَذَكَرَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أَيْنَ أَتَى} وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: جِئْتُكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ، وَمِنْ أَيْنَ لَا تَعْلَمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الْأُوَلِ: جَزَاءٌ يَقْتُلُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى وَأَيْنَ أَتَى وَقَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: جِئْتُكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ، وَمِنْ أَيْنَ لَا تَعْلَمُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لَمْ يُفْهَمْ، فَاسْتَفْهَمَ كَمَا قَالُوا: أَيْنَ الْمَاءُ وَالْعُشْبُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ قَدِ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا تُرِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وَذُكِرَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَلْقَى مَا فِي يَدِهِ تَحَوَّلَ ثُعْبَانًا، فَالْتَقَمَ كُلَّ مَا كَانَتِ السَّحَرَةُ أَلْقَتْهُ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا وَأَلْقَوْا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السِّحْرِ، {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، قَالَ: فَتَحَتْ فَمًا لَهَا مِثْلَ الدَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَتْ مَشْفَرَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَرَفَعَتِ الْآخَرَ، ثُمَّ اسْتَوْعَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَلْقَوْهُ مِنَ السِّحْرِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهَا فَقَبَضَ عَلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ عَصًا، فَخَرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ فِرْعَوْنَ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فِرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ {لَا تَخَفْ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَأَكَلَتْ كُلَّ حَيَّةٍ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَجَدُوا {وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} لَمَّا رَأَى مَا أَلْقَوْا مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَسْعَى، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ كَانَتْ لَعِصِيًّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَقَدْ عَادَتْ حَيَّاتٌ، وَمَا تَعْدُو عَصَايَ هَذِهِ، أَوْ كَمَا حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وَفَرِحَ مُوسَى فَأَلْقَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَعْرَضَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهِيَ حَيَّاتٌ فِي عَيْنِ فِرْعَوْنَ وَأَعْيُنِ النَّاسِ تَسْعَى، فَجَعَلَتْ تَلْقَفْهَا، تَبْتَلِعُهَا حَيَّةً حَيَّةً، حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْا، ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ عَصًا فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ، وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، قَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى، لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرٌ مَا غَلَبَنَا. وَقَوْلُهُ {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ: أَصَدَّقْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ لِمُوسَى بِمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ لَكُمْ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى لَعَظِيمُكُمُ {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: لَمَّا قَالَتِ السَّحَرَةُ {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ وَأَسِفَ وَرَأَى الْغَلَبَةَ وَالْبَيِّنَةَ: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}: أَيْ لَعَظِيمُ السُّحَّارِ الَّذِي عَلَّمَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} يَقُولُ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مُخَالِفًا بَيْنَ قَطْعِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ يُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُسْرَى الرَّجُلَيْنِ، أَوْ يُسْرَى الْيَدَيْنِ، وَيُمْنَى الرَّجُلَيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَطْعًا مِنْ خِلَافٍ، وَكَانَ فِيمَا ذُكِرَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يَقُولُ: وَلَأُصَلِبَنَّكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: هُـمْ صَلَبُـوا الْعَبْـدِيَّ فِـي جِذْعِ نَخْلَةٍ *** فَـلَا عَطَسَـتْ شَـيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعـَا يَعْنِي عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ: "فِي جُذُوعِ"، لِأَنَّ الْمَصْلُوبَ عَلَى الْخَشَبَةِ يُرْفَعُ فِي طُولِهَا، ثُمَّ يَصِيرُ عَلَيْهَا، فَيُقَالُ: صُلِبَ عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} لَمَّا رَأَى السَّحَرَةُ مَا جَاءَ بِهِ عَرَفُوا أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَخَرُّوا سُجَّدًا، وَآمَنُوا عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ فِرْعَوْنَ: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَهُمْ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ حِينَ قَالُوا {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وَقَالَ: كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفِي آخِرِ النَّهَارِ شُهَدَاءَ. وَقَوْلُهُ {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} يَقُولُ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّهَا السَّحَرَةُ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا لَكُمْ، وَأَدُومُ، أَنَا أَوْ مُوسَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ {لَنْ نُؤْثِرَكَ} فَنَتْبَعُكَ وَنَكْذِبُ مِنْ أَجْلِكَ مُوسَى {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي مِنَ الْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مُوسَى {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يَقُولُ: قَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى الَّذِي جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَعَلَى الَّذِي فَطَرَنَا، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ (فَطَرَنَا) خَلَقَنَا، فَالَّذِي مِنْ قَوْلِهِ {وَالَّذِي فَطَرَنَا} خَفْضٌ عَلَى قَوْلِهِ (مَا جَاءَنَا) وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {وَالَّذِي فَطَرَنَا} خَفْضًا عَلَى الْقِسْمِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَاللَّهِ، وَقَوْلُهُ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} يَقُولُ: فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، وَاعْمَلْ بِنَا مَا بَدَا لَكَ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يَقُولُ: إِنَّمَا تَقْدِرُ أَنَّ تُعَذِّبَنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي تَفْنَى، وَنَصَبَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْوَقْتِ وَجُعِلَتْ إِنَّمَا حَرْفًا وَاحِدًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} أَيْ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْحُجَجِ مَعَ بَيِّنَةٍ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أَيِ اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ إِلَّا فِيهَا، ثُمَّ لَا سُلْطَانَ لَكَ بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا أَقْرَرْنَا بِتَوْحِيدِ رَبِّنَا، وَصَدَقْنَا بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} يَقُولُ: لِيَعْفُوَ لَنَا عَنْ ذُنُوبِنَا فَيَسْتُرُهَا عَلَيْنَا {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} يَقُولُ: لِيَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَتَعَلُّمَنَا مَا تَعَلَّمْنَاهُ مِنَ السِّحْرِ، وَعَمِلْنَا بِهِ الَّذِي أَكْرَهَتْنَا عَلَى تَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَخَذَهُمْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ثَنَا نَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: غِلْمَانٌ دَفَعَهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَى السَّحَرَةِ تُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ بِالْفَرَمَا. حَدَثَيْ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: أَمَرَهُمْ بِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، قَالَ: تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ. {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: أَمَرْتَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَهُ. وَقَوْلُهُ {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} يَقُولُ: وَاللَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ يَا فِرْعَوْنُ جَزَاءً لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَأَبْقَى عَذَابًا لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا، وَأَبْقَى عَذَابًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قَالَا خَيْرًا مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ، وَأَبْقَى مِنْكَ عَذَابًا إِنَّ عُصِيَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ} مِنْ خَلْقِهِ (مُجْرِمًا) يَقُولُ: مُكْتَسِبًا الْكُفْرَ بِهِ، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} يَقُولُ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ مَأْوًى وَمَسْكَنًا، جَزَاءً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ {لَا يَمُوتُ فِيهَا} فَتَخَرُّجُ نَفْسُهُ (وَلَا يَحْيَا) فَتَسْتَقِرُّ نَفْسُهُ فِي مَقَرِّهَا فَتَطْمَئِنُّ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَنَاجِرِ مِنْهُمْ {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} مُوَحِّدًا لَا يُشْرِكُ بِهِ {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} يَقُولُ: قَدْ عَمِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} يَقُولُ: فَأُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ الْعُلَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مَا هِيَ، فَقَالَ: هُنَّ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يَعْنِي: جَنَّاتُ إِقَامَةٍ لَا ظَعْنَ عَنْهَا وَلَا نَفَادَ لَهَا وَلَا فَنَاءَ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَقُولُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ (خَالِدِينَ فِيهَا) يَقُولُ: مَاكِثِينَ فِيهَا إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ؛ فَالْجَنَّاتُ مِنْ قَوْلِهِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) مَرْفُوعَةٌ بِالرَّدِّ عَلَى الدَّرَجَاتِ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} قَالَ: عَدْنٌ. وَقَوْلُهُ {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} يَقُولُ: وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى الَّتِي هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى مَا وَصَفَ جَلَّ جَلَالُهُ ثَوَابَ مَنْ تَزَكَّى، يَعْنِي: مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَأَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ، وَلَمْ يُدَنِّسْ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَتِهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ.
|